RSS

Monthly Archives: أفريل 2013

مقالة نشرها موقع مجلة “المجلة” الأربعاء 24 إبريل 2013

سائق التاكسي .. عالِم
بكر عويضه
تشاء الأقدار أن تلتقي خلال مشوار ما، من يحاورك بأمور لا يخطر على البال أن يجري التطرق إليها مع سائق تاكسي. كنت، نهار الجمعة الماضي، في سيارة أجرة تقطع بي الطريق عائداً للبيت بعد مشاركة بحلقة من “سبعة أيام”، أدارتها باقتدار نجلاء أبو مرعي، مقدمة البرامج بمحطة “بي بي سي” العربية، وشارك فيها كلٌ من كارل شرّو، خالد الشامي، وحميد غل شريف. كنا ما نزال في أول الرحلة، عندما التفت السائق إلي يسألني: أصحافي أنت؟ نعم، أجبت. عاد يسأل: أكنتَ في مقابلة معك؟ باختصار، أوضحت له المسألة. كأنه لم يقتنع، أو يقنع، فعاود السؤال إنما غيّر الدفة، قال: كيف ترى الأوضاع؟ سألت بدوري: أية أوضاع، ماذا تقصد؟ أجاب بلا تردد: أعني المجتمع، الاقتصاد، مثلاً. قلت: الوضع صعب، الكل يعاني. عاجلني بنوع من الحسم: على كل حال النهاية قريبة. ساد الصمت بضع دقائق خِلت خلالها أنني بصحبة أحدهم، أولئك الذين لا ينفكون يعلموننا أنهم يعلمون موعد نهاية العالم، ولا يكفون عن الناس أزَّ زعيقهم من كل مذياع وتلفزيون، متوعدين البشر بدمار كوكبهم المعمور، خلال سبع ليال، أو ثمانية أيام، ثم تمر مواعيدهم المضروبة في الخيال، فلا يحصل للعالم شيء مما صدع وهمهم من توقع فصدعوا رؤوسنا به.
أيقظني من تلك السرحة صاحبي إذ فاجأني بالقول: العالم بحاجة إلى نظام جديد. وقبل أن أستفهم ما يقصد، واصل: مع وصول علوم التكنولوجيا ما وصلت من تقدم، لم يبق أمام ثورة “الآي تي” (IT) إلا توصل البشر إلى سر الخلق.
لفت انتباهي ما سمعت، لكنني بشيء من الهمهمة اكتفيت، فسارع هو يفاجئني باستفسار: هل تعرف الجزيئات (PRCELS)؟
احترت للحظة بمَ أجيب، ثم قلت: أسمع عنها.
عاد فسأل: ماذا عن الذَرّة (ATOM) كم تعرف عنها؟
بلا تردد رددت: لا شيء.
ابتسم، مواصلاً يستفهم: لكنك تعلم ما هي المادة (MATTER) أليس كذلك.
أحرجني، فقلت: نعم، إنما ليس كثيراً، ثم إنني عاجلته قبل أن يهجم بالمقبل من أسئلته، فقلت: هذه مسائل ليست من اختصاصي، على كل حال، لِم تسألني عنها.
لمحت ابتسامته تتسع إذ يرد بما لم أتوقع: سؤال أخير، أتعلم لماذا أسموها سوداء؟
قلت: ما هي تلك السوداء؟
قال: المادة السوداء(BLACK MATTER) .
أجبت، وقد بدأ صبري ينفد، بالنفي: كلا.
أجاب هو: أتريد أن تعلم؟
قلت، ولا أدري إن أدرك هو أنني بدأت أشعر بالملل: نعم، من فضلك (ENLIGHTEN ME) نوّرني.
وبما يشبه صيحة إسحق نيوتن عندما سقطت التفاحة فوق رأسه، راح هو يصيح: ها هي .. ها هي (THAT’S IT) لم يكتشفوا النور في تلك الـ (HOLE) فأسموها سوداء، هذا كل ما في الأمر.
ثم إنه انطلق يشرح لي معنى الجزيئات، الذّرّة، ضرورة فهم ماهية المادة السوداء، وارتباط ذلك كله بهندسة الكون، وانتظام مجراته، وحركة كواكبه، وانتهى بمحاضرته تلك إلى أن الانسان نفسه جزء من شمولية الخلق، وبالتالي فهو (الإنسان) من دون نور يتصل به ويتواصل معه، لن يفهم معنى الخلق ولا حتمية وجود الخالق.
كنت أسمع محاولاً أن الحق به، إذ يشرح بسرعة صاروخية. وفيما أحاول أن أفهم، شعرت أنني لم استطع وقف تساؤل راح يدق جدران دماغي: أكل هذا ينطق به سائق تاكسي؟ وعلى الفور كأنما أدرك ما يدور برأسي، قال مبتسماً: أنا ساينتِست (عالِم) أعمل سائق سيارة أجرة، كما ترى.
هززت رأسي، ومرة أخرى، كأنما عرف أنني لم أقتنع، بادر فقال: هذا اختياري.
قلت: يبدو ذلك، إذ من الواضح أنك كنت تستطيع الحصول على عمل يناسب علمك.
هز هو رأسه مرتين، نحو اليمين ثم إلى الشمال، يقصد النفي، ثم قال: وظيفة السائق هذه تناسبني أيضا، أقابل كثيرين، ومن أشعر أن بإمكاني التحاور معهم أحاورهم، استفيد منهم، وأفيدهم، إن استطعت.
ثم كأنه لمح أيضا ملامح عدم اقتناع تام من جانبي، فسارع يوضح: شغفت بمواضيع الفيزياء والكيمياء منذ دراستي الثانوية، وأقبلت على التوسع بدراستها خلال الجامعة، لكنني لست أحمل درجة علمية تؤهلني للعمل بصفة عالِم.
أكبرت فيه صدق المصارحة والصدق، وساد الصمت من جديد قبل أن يعود ليسأل: أتمانع إن سألتك من أين هو أصلك؟ قلت: كلا، أنا من فلسطين، وأنت؟
ألقيت تساؤلي، رغم ان الرجل الخمسيني يبدو كما أي انكليزي، ويتحدث بلا أية لكنة أجنبية، إنما ثمة إحساس ساورني، وبادر هو فتحدلاني: حاول أن تخمّن؟
حاولت متردداً: اليونان؟
ابتسم، قائلاً: أنا مولود هنا، لكن أبويّ يونانيان.
أجبت: نحن إذاً جيران، أعني من حيث الجغرافيا.
قال: نعم، بلدان على ساحل المتوسط.
قلت: أكثر من ذلك، تاريخياَ، بعض قدماء الفلسطينيين يتحدرون من جزيرة كريت، وبالتالي ربما هناك جينات مشتركة.
أجاب: ممكن، إنما لا تنسى أن بني البشر أجمعين تجمعهم قواسم جينية مشتركة، المهم أن يجمعهم ذلك النور (THAT LIGHT) راح يكررها مرات عدة.
وصلنا نهاية المشوار. أمام باب بيتي أخرج الموبايل من جيبه، راح يتصفحه بسرعه، توقف عند صورة عينين مغمضتين وجبين يتعرض لشعاع، قال رفيق رحلتي تلك: من دون أن يطرق شعاع النور هذا باب العقل فيُفتَح له، لن نتمكن من فهم معنى أي شيء.
دعوته لفنجان شاي داخل البيت. شكر واعتذر. قال: يجب أن ألحق بالعمل. طلبت نسخة من صورة شعاع النور تلك. استجاب على الفور فأبرق بها، وبأسرع من البرق حطت بصندوق إيميلي.
شكراً لقدرٍ جمعني بسائق التاكسي على قدر من العلم لافت للنظر، وقد أمسكت عن ذكر إسمه لأنني لم أستأذنه. هي واقعة جعلتني أتذكر، إن نسيت، كم من مدعي عِلمٍ عبر العالم كله، ينشر ظلام التجهيل، إما لأنه غافل، أو لهوى ما يتغافل، عن حقيقة أن نور العلم أول الخطى على طريق المعرفة. ثم كي أتذكر أيضا مقاربة محزنة، فكم من علماء عرب، جدوا واجتهدوا طوال العمر ليصلوا مرتبة العلم التي بلغوها، ثم يجدوا أنفسهم مهاجرين في المنافي، إما بالاختيار أو بالاضطرار، بعضهم أتيحت له فرصة معيشة كريمة وإسهام متميز في المجتمعات التي رحبت بهم، وبينهم من اضطر للعمل في غير حقل العلم، بل وتحمل معاناة مستويات متدنية لأجل إطعام أفواه جائعة، إن في منزل بغربة
المنفى أو لأهل هم أسرى في غربة وطنهم ذاته.

http://www.majalla.com/arb/2013/04/article55244545

 
أضف تعليق

Posted by في أفريل 30, 2013 بوصة Uncategorized